أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ كِتَابًا: مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِى الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ، الْمُدْبِرِ الْعُمْرَ، الْمُسْتَسْلِمِ لِلدَّهْرِ، الذَّامِّ لِلدُّنْيَا، السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى، الظَّاعِنِ إِلَيْهِمْ عَنْهَا غَدًا إِلَى الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لَا يُدْرَكُ، السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ، غَرَضِ الأَسْقَامِ، وَرَهينَةِ الأَيَّامِ، وَرَمِيَّةِ الْمَصَائِبِ، وَعَبْدِ الدُّنْيَا، وَتَاجِر الْغُرُورِ، وَغَرِيمِ الْمَنَايَا، وَأَسِيرِ الْمَوْتِ، وَحَليفِ الْهُمُومِ، وَقَرين الأَحْزَانِ، وَنصْبِ الآفَاتِ، وَصَرِيعِ الشَّهَوَاتِ، وَخَلِيفَةِ الأَمْوَاتِ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ فِيمَا قَدْ تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا وَجُنُوحِ الدَّهْرِ عَلَىَّ، وَإِقْبَالِ الآخِرَةِ عَلَىَّ مَا يَزَعُنِى عَنْ ذِكْرِ مَا سِوَاىَ وَالاهْتِمامِ بِمَا وَرَائِى غَيْرَ أَنِّى حِينَ تَفَرَّدَ بِى - دُونَ هُمُومِ النَّاسِ - هَمُّ نَفْسِى، فَصَدَفَنِى رَأيِى، وَتَصَرَّفَ بِى هَوَاى، وَصَرَّحَ إِلَى مَحْضِ أَمْرِى فَأَفْضَى بِى إِلَى حَدٍّ لَا يَزْرِى به لَعِبٌ، وَصِدْقٍ لَا يَشُوبُهُ كَذِبٌ، وَجَدْتُكَ، أَىْ بُنَىَّ، مِنْ بَعْضِى، بَلْ وَجَدْتُكَ مِنْ كُلِّى حَتَّى كَأَنَّ شَيْئًا لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِى، وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِى، فَعَنَانِى مِنْ أَمْرِكَ مَا عَنَانِى مِنْ نَفْسِى، فَكَتَبْتُ إِلَيْكَ كِتَابِى هَذَا، إِنْ أَنَا بَقِيتُ أَوْ فَنِيتُ، وَإِنِّى أُوصِيكَ يَا بُنَىَّ بِتَقْوَى الله وَلُزُومِ أَمْرِهِ، وَعِمَارَة قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ، وَالاعْتِصَامِ بِحَبْلِه، فَهُوَ أَوْثَقُ السَّبَبِ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، يَا بُنَىَّ: أَحْيِى قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وَمَوِّتْهُ بِالزُّهْدِ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ، وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وَكسِّرْهُ بِالْفَنَاءِ، وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ، وَفُحْشَ تَقَلُّبِ الأيَّامِ، وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ، وَذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَسِرْ فِى دِيَارِهِمْ، وَاعْتَبرْ بِآثَارِهمْ، وَانْظُرْ مَا فَعَلُوا، وَعَمَّنِ انْتَقَلُوا، وَأَيْنَ حَلُّوا؛ فَإِنَّكَ تَجِدُهُم انْتَقَلُوا عَنِ الأَحِبَّةِ، وَحَلُّوَا دَارَ الْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كأَحَدِهِمْ فَأَصْلِحْ مَثْوَاكِ، وَاحْرِزْ آخرَتَكَ، وَدَعِ الْقَوْلَ فيمَا لَا تَعْرِفُ، وَالدُّخُولَ فِيمَا لَا تُكَلَّفُ، وَأَمْسِكْ عَنِ السَّيْرِ إِذَا خِفْتَ ضَلَالَةً فَإِنَّ الْكَفَّ عِنْدَ حَيْرةِ الضَّلَالَةِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الأَهْوَالِ، وَأمُرْ بِالْمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنْكِرِ الْمُنْكَرَ بِيَدِكَ وَلِسَانِكَ، وبَايِنْ مِنْ فعْلِهِ بِجُهْدِكَ، وَخُضِ الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ، وَتَفَقَّهْ فِى الدِّينِ، وَعَوِّدْ نَفْسَكَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَأَلْجِئْ نَفْسَكَ فِى الأُمُورِ كُلِّهَا إِلَى الله، فَإنَّكَ تُلْجِئُهَا إِلَى كهْفٍ حَرِيزٍ، وَمَانِعٍ عَزِيزٍ، وَأَخْلِصْ فِى الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ، فَإِنَّ بِيَدِه الْعَطَاءَ وَاَلْحِرْمَانَ، وَأَكْثِرِ الاسْتِخَارَةَ، وَتَفَهَّمْ وَصِيَّتِى، لَا تَذْهَبَنَّ عَنْكَ صَفْحًا، أَىْ بُنَىَّ: إنِّى لَمَّا رَأَيْتُنِى قَدْ بَلَغْتُ سِنّا وَرَأَيْتُنِى ازْدَدْتُ وَهنًا بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِى إِيَّاكَ خِصَالًا مِنْهُنَّ أَنْ يُعَجَّلَ بِى أَجَلٌ قَبْلَ أَنْ أَقْضِىَ إِلَيْكَ مَا فِى نَفْسِى، وَأَنْقُصُ فِى رَأيى كَمَا نَقَصْت فِى جسْمِى أَوْ يَسْبِقُنِى إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَةِ الْهَوَى وَفِتَنِ الدُّنْيَا، فَتَكُونُ كَالصَّعْبِ النَّفُورِ، وَإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالأَرْضِ الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِى فِيهَا مِنْ شَئٍ قَبِلَتْهُ، فَبَاكَرْتُكَ بالأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقُسُوَ قَلْبُكَ وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ، لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأيِكَ مَا قَدْ كَفَاكَ (أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ وَتَجْرِبَتَهُ) فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مُؤْنَةَ الطَّلَبِ، وَعُوفِيتَ مِنْ عِلَاجِ التَّجْرِبَةِ، فَأَتَاكَ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأتِيهِ، وَاسْتَبَانَ لَكَ مَا رُبَّمَا أُظلَمَ عَلَيْنَا فِيهِ، أَىْ بُنَىَّ: إِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ
كَانَ قَبْلِى فَقَدْ نَظَرْتُ فِى أَعْمَارِهِمْ وَفَكَّرْتُ فِى أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِى آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّى لِمَا قَدْ انْتَهَى (*) إِلَىَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمَّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسَتَخْلَصْتُ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَحِيلَتَهُ، وَتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ، وَصَرفْتُ عَنْكَ مَجهُولَهُ، وَرَأَيْتُ عِنَايَتِى بكَ وَاجِبَةً عَلَىَّ، فَجَمَعْتُ لَكَ مَا إِنْ فَهِمْتَهُ أَدَّبَكَ، فَاغْتَنِمْ ذَلِكَ وَأَنْتَ مُقْبِلٌ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْيَقِينَ، فَعَلَيْكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ الله وَتَأوِيلِهِ، وَشَرَائِعِ الإِسْلَامِ وَأَحْكَامِهِ، وَحلَالِهِ وَحَرامِهِ، لَا تُجَاوِزْ ذَلِكَ قَبْلَهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ أَشْفَقْتَ أَنْ تَلْبَسَكً شُبْهَةٌ لمَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَرَأيِهِمْ مِثْلَ الَّذِى لبسهم فتقصد فِى تَعْلِيمِ ذَلِكَ بِلُطْفٍ يَا بُنَىَّ، وَقدِّمْ عِنَايَتَكَ فِى الأَمْرِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ نَظَرًا لِدِينِكَ لَا مُمَارِيًا وَلَا مُفَاخِرًا، وَلَا طَلبًا لعَرَضِ عَاجِلَتِكَ، فَإِنَّ الله يُوَفِّقُكَ لِرُشْدِكَ، وَيَهْدِيكَ لِقَصْدِكَ، فأَقْبَلْ عَهْدِى إِلَيْكَ، وَوَصِيَّتِى لَكَ، وَاعْلَمْ يَا بُنَىَّ أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ مِنْ وَصِيَّتِى تَقْوَى الله وَالاقْتَصَارُ عَلَى مَا افْتَرَضَ الله عَلَيْكَ، والأَخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْكَ أَوْ لَكَ مِنْ آبَائِكَ، وَالصَّالِحين مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا أَنْ يَنْظُرُوا لأَنْفُسِهِمْ عَمَّا أَنْتَ نَاظِرٌ، وَفَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ، ثُمَّ رَدَّهُمْ ذَلِكَ إِلَى الأَخْذِ بِما عَرَفُوا، وَالإِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا، فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ مَا عَمِلُوا، فَيَكُونُ طَلَبُكَ ذَلِكَ بِتَعْلِيمٍ وَتَفَهُمٍ وَتَدَبُّرٍ، لَا بِتَوَارُدِ الشَّبُهَاتِ وَعِلْم الْخُصُومَاتِ، وَابْدَأ بِعَمَلِ نَظَرِكَ فِى ذَلِكَ بِالاسْتِعَانَةِ بِإِلَهِكَ عَلَيْهِ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ، وَاحْذَرْ كُلَّ شَائِبَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَيْكَ شُبْهَةً، وَأَسْلَمَتْكَ إِلَى ضَلَالَةٍ، فإِذَا أيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ، وَتَمَّ رَأيُكَ فَاجْتَمَعَ، كَانَ هَمُّكَ فِى ذَلِكَ هَمّا وَاحِدًا، فَانْظُرْ فِيمَا فَسَّرْتُ لَكَ، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ فَرَاغِ نَظَرِكَ فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبطُ خَبْطَ عَشْوَاءَ، وَلَيْسَ مِنْ طَالِبٍ لِدِينٍ مَنْ خَبَطَ وَلَا خَلَطَ، وَالإِمْسَاكُ عِنْدَ ذَلِكَ أَمْثَلُ، وَإِنَّ أَوَّلَ مَا أَبْدَؤُكَ بِهِ فِى ذَلِكَ وآخِرَهُ أَنِّى أَحْمَدُ الله إِلَهِى وَإِلهَكَ، إِلَهَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، رَبَّ مَنْ فِى السَّموَاتِ وَمَنْ فِى الأَرَضِينَ بِمَا هُمْ أَهْلُهُ، وَكَمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَكَمَا يُحِبُّ وَيَنْبَغِى لَهُ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّىَ عَلَى نَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ وَأَنْ يُتِمَّ عَلَيْنَا نِعَمَهُ لِمَا وَفَّقَنَا مِنْ مَسْأَلَتِهِ، وَالإِجَابَةِ لَنَا، فإِنَّ بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، اعْلَمْ أَىْ بُنَىَّ: أَنَّ أَحَدًا لَمْ يُنْبِئْ عَنِ الله - ﷻ - كَمَا نَبَّأَ مُحَمَّدٌ ﷺ فَارْضَ بِهِ رَائِدًا ، فَإِنِّى لَمْ آلُكَ نَصِيحَةً، وَلَنْ تَبْلُغَ فِى ذَلِكَ وَإِنِ اجْتَهَدْتَ مَبْلَغِى فِى ذَلكَ لِعِنَايتى وطُولِ تَجْرِبَتِى، وَإِنَّ نَظَرِى لَكَ كَنَظَرِى لِنَفْسِى، اعْلَمْ أَنَّ الله وَاحِدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ لَا يَضَادُّهُ فِى مُلْكِهِ أَحَدٌ، وَلاَ يَزُولُ وَلَمْ يَزَلْ، أَوَّلٌ قَبْلَ الأَشْيَاءِ بِلَا أَوَّلِيَّةٍ، وآخِرٌ بِلَا نِهَايَةٍ، حَكِيمٌ عَلِيمٌ، قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِى لِمِثْلِكَ فِى صِغَرِ خَطَرِهِ وَقِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ، وَكَثْرَةِ عَجْزِهِ، وَعَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَى ربِّكَ، فَاسْتَعِنْ بِإِلَهِكَ فِى طَلَبِ حَاجَتِكَ، وَتَقَرَّب إِلَيْهِ بِطَاعَتِكَ، وَارْغَبْ إِلَيْهِ بِقُدْرَتِهِ، وَارْهَبْ مِنْهُ لِرُبُوبِيَّتِهِ، فَإِنَّهُ حَكِيمٌ لَمْ يَأمُرْكَ إِلَّا بِحَسَنٍ، وَلاَ يَنْهَاكَ إِلَّا عَنْ قَبِيحٍ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَانًا بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، وَأَحِبَّ لِغَيْرِكَ مَا تُحبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَه لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَلَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمُ، بَلْ أَقْلِلْ مِمَّا تَعْلَمُ، وَلاَ تَقُلْ مَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ، اعْلَمْ يَا بُنَىَّ؛ أَنَّ الإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ، وآفَةُ الأَلْبَابِ، فَاسْعَ فِى كَدْحِكَ، وَلَا تَكُنْ خَازَنًا لِغَيْرِكَ، فَإِذَا هُدِيتَ لِقَصْدكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقًا ذَا مَشَقَّةٍ بَعيدَةٍ وَأَهْوَالٍ شَدِيدَةٍ، وإِنَّكَ لَا غِنَى بِكَ عَنْ حُسْنِ الارْتِيَادِ، وَقَدِّرْ بَلَاغَكَ مِنَ الزَّادِ مَعَ خفَّةِ الظَّهْرِ، فَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ، فَيَكُونَ ثِقَلُه وَبَالًا عَلَيْكَ، وَإِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ وَيُوَافِيكَ بِهِ حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْه فَاغْتَنِمْهُ، واغْتَنِمْ مَا أَقْرَضْتَ مَن اسْتَقْرَضَكَ فِى حَالِ غِنَاكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ عَقَبَةً كَؤُدًا مَهْبَطُهَا عَلَى جَنَّةٍ أَوْ عَلَى نَارٍ، فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ قبْلَ نُزُولِكَ، فَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ وَلَا إِلَى الدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِى بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ في الدُّعَاءِ وَضَمِنَ الإِجَابَةَ، وَأَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ فَيُعْطِيَكَ، وَتَطْلُبَ إِلَيْهِ فَيُرْضِيَكَ، وَهُوَ رَحِيمٌ لِمَ تَجْعَلُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ حِجابًا، وَلَمْ يُلْجئْكَ إِلَى مَنْ تَشَّفَّعُ بِهِ إِلَيْه، وَلَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأتَ التَّوْبَةَ، وَلَمْ يُعَاجِلْكَ بِالنِّعْمَةِ، ولَمْ يُؤْيِبْكَ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلَمْ يَسُدَّ عَلَيْكَ بَابَ التَّوْبَةِ، وَجَعَلَ تَوْبَتَكَ النُّزُوعَ عَن الذَّنْبِ، وَجَعَلَ سَيَّئَتَكَ وَاحِدَةً، وَجَعَلَ حَسَنَتَكَ عَشْرًا، إِذَا نَادَيْتَهُ أَجَابَكَ، وَإِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ، فأَفْضَيْتَ إِلَيْه بِحَاجَتِكَ وَأَبْثَثْتَهُ ذَاتَ نَفْسِكَ، وَشَكَوْتَ إِلَيْهِ هُمُومَكَ، وَاسْتَعَنْتَهُ عَلَى أَمُورِكَ، وَسَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ الَّتِى لَا يَقْدرُ عَلَى إِعْطَائِهَا غَيْرُهُ مِنْ زِيَادَةِ الأَعْمَارِ، وَصِحَّةِ الأَبْدَانِ، وَسعَةِ الرِّزْقِ، وَتَمَامِ النَّعْمَةِ، فَأَلْحِحْ فِى الْمَسْأَلَةِ، فَبِالدُّعَاءِ تَفْتَحُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، وَلَا يُقنِّطْكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ، فَإِنَّ العَطَيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ، فَرُبَّمَا أُخِّرَتِ الإِجَابَةُ لِتَطُولَ مَسْأَلَةُ السَّائِلِ فَيَعْظُمَ أَجْرُهُ، وَيُعْطَى سُؤْلَهُ وَرُبَّمَا ادُّخِر ذَلِكَ لَهُ لِلآخِرَةِ فَيُعْطَى أَجْرَ تَعَبُّدِهِ، وَلَا يَفْعَلُ بِعَبْدِهِ إِلَّا مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ فِى الْعَاجلَةِ وَالآجِلَةِ، ولَكِنْ لَا يَجِدُ لُطْفَهُ أَحَدٌ، وَلَا يَعْرِفُ دَقَائِقَ تَدْبِيرِهِ إِلَّا المُصْطَفَوْنَ، وَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكَ لِمَا يَبْقَى وَيَدُومُ فِى صَلَاحِ دُنْيَاكَ وَتَسْهِيلِ أَمْرِكَ وَشُمُولِ عَافيَتِكَ، فإِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، اعْلَمُ، أىْ بُنىَّ، أَنَّكَ خُلِقْتَ لِلآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، وَلِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَأَنَّكَ فِى مَنْزِلِ قُلْعَةٍ وَدَارِ بُلْغَةٍ، وَطَرِيقِ الآخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَرِيدَةُ الْمَوْتِ الَّذِى لَا يَنْجُو مِنْهُ هَارِبُهُ، وَلَا يَفُوتُهُ طَالِبُهُ، فَاحْذَرْ أَنْ يُدْرِكَكَ وَأَنْتَ عَلَى حَالٍ سَيَّئَةٍ، وَأَعْمَالٍ مُرْدِيَةٍ فَتَقَعَ فِى نَدَامَةِ الأَبَدِ، وَحَسْرَةٍ لَا تَنْفَدُ، فَتَفْقِدَ دِينَكَ لِنْفسِكَ، فَدِينُكَ لَحْمُكَ وَدَمُكَ وَلَا يُنْقِذُك غَيْرُهُ، أَىْ بُنَىَّ: أَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ وَذِكْرَ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ وَتُفْضِى بَعْدَ المَوْتِ إِلَيْهِ، وَاجْعَلْهُ نُصْبَ عَيْنِكَ حَتَّى يَأتِيَكَ وَقَدْ أَخَذْتَ لَهُ حِذْرَكَ، وَلَا يَأتِيكَ بَغْتةً فَيُبْهِرَكَ، وَأَكْثِرْ ذِكْرَ الآخرَةِ وَذِكْرَ نَعيمِهَا وَحُبُورِهَا وَسُرُورِهَا وَدَوَامِهَا وَكَثْرَةِ صُنُوفِ لَذَّاتِهَا وَقِلَّةِ آفَاتِهَا إِذَا سَلِمَتْ، وَفَكِّرْ فِى أَلْوَانِ عَذَابِهَا، وَشِدَّةِ غُمُومِهَا وَأَصْنَافِ نَطَالِهَا، إِنْ أَنْتَ تَيَقَّنْتَ، فإِنَّ ذَلِكَ يُزَهِّدكَ فِى الدُّنْيَا، وَيُرَغِّبُكَ فِى الآخِرَةِ، وَيُصَغِّرُ عِنْدَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا وَغُرُورَهَا وَزَهْوَتَهَا، فَقَدْ نبَّأَكَ الله عَنْهَا وَبَيَّنَ أَمْرَهَا وَكشَفَ عَنْ مَسَاوِئِهَا، فَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلَادِ أَهْلِهَا إِلَيْهَا، وَتَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا كَكِلَابٍ عَاوِيَةٍ وَسِبَاعٍ ضَارِيَةٍ، يَهِرُّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَيَقْهَرُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا، وَكَثِيرُهَا قَلِيلَهَا، قَدْ أَضَلَّتْ أَهْلَهَا عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، وَسَلَكَتْ بِهِمْ طَرِيقَ العَمَى، وَأَخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنْهَجِ الصَّوَابِ، فَتَاهُوا فِى حَيْرَتِهَا، وَغَرِقُوا فِى فِتْنَتِهَا، واتَّخَذُوهَا رِيَاءً فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَلَعِبُوا بِهَا، وَنَسُوا مَا وَرَاءَهَا، فإِيَّاكَ يَا بُنَىَّ: أَنْ تَكُونَ مِثْلَ مَنْ قَدْ شَانَتْهُ بِكَثْرَةِ عُيُوبِهَا! أَىْ بُنَىَّ: إِنَّكَ إِنْ تَزْهَدْ فِيمَا قَدْ زَهَّدْتُكَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَتُعْرِضْ نَفْسَكَ عَنْهَا فَهِىَ أَهْلُ ذَاكَ، فَإنْ كُنْتَ غَيرَ قَابِلٍ نُصْحِى إِيَّاكَ مِنْهَا فَاعْلَمْ يقِينًا أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ، وَلَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ، فَإِنَّكَ فِى سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، فأَجْمِلْ فِى الطَّلَبِ، وَاعْرفْ سَبِيلَ المُكْتَسَبِ فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جرَّ إِلى حَرْبٍ، وَليْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ، وَلَا كُلُّ غَائِبٍ يَؤُوبُ، وَأَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ رِيبَةٍ وَإِنْ سَاقَتْكَ، إِيَّاكَ أَنْ تَعْتَاضَ بمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسكَ عِوَضًا، وَقَدْ جَعَلَكَ الله بِهِ حُرّا، وَمَا مَنْفَعَةُ خَيْرٍ لَا يُدْرَكُ بالْيَسِيرِ، وَيَسِيرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِالْعَسِيرِ، وَإيَّاكَ أَنْ تَرْجُفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ، وَإِن اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الله ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ، فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ، وآخِذٌ سَهْمَكَ، وَإِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ الله أَعْظَمُ وَأَكْرَمُ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الله ولله الْمَثَلُ الأَعْلَى، وَاعْلَمْ أَنَّ لَكَ فِى يَسِيرٍ مِمًّا تَطْلُبُ فَتَنَال مِنَ الْمُلُوكِ افْتِخارًا، وَبَيْعُ عِرْضِكَ وَدِينِكَ عَلَيْكَ عَارٌ، فَاقْتَصِدْ فِى أَمْرِكَ تَحْمِدْ بَعْضَ عَقْلِكَ، إِنَّكَ لَسْتَ بَائِعًا شَيْئًا مِنْ عِرْضِكَ وَدِينِكَ إِلَّا بِثَمَنٍ، وَالْمَغُبُونُ مَنْ حُرِمَ نَصِيبَهُ مِنَ الله، فَخُذْ مِنَ الدُّنْيَا مَا أَتَاكَ، وَتَوَلَّ عَمَّا تَولَّى عَنْكَ فإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فأَجْمِلْ فِى الطَّلَبِ، وَإِيَّاكَ وَمُقَارَبَةَ مَنْ يَشينُكَ وَتَبَاعَدْ مِنَ السُّلْطَانِ، وَلَا تَأمَنْ خِدَعَ الشَّيْطَانِ، وَمَتَى مَا رَأَيْتَ مُنْكَرًا مِنْ أَمْرِكَ فَأَصْلِحْهُ بِحُسْنِ نَظَرِكَ، فإِنَّ لِكُلِّ وَصْفٍ صِفَةً، وَلِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، وَلِكُلِّ أَمْرٍ وَجْهًا، يَنَالُ الأَرِيبُ فِيهِ رُشْدَهُ، ويُهْلِكُ الأَحْمَقُ بِتَعَسُّفِهِ فِيهِ نَفْسَهُ، يَا بُنَىَّ: كَمْ قَدْ رَأَيْتُ مَنْ قِيلَ لَهُ تُحِبُّ أَنْ تُعْطَى الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا مِائَةَ سَنَةٍ بِلَا آفَةٍ وَلَا أَذًى، لَا تَرَى فِيهَا سُوءًا وَيَكُون آخِرُ أَمْرِكَ عَذَابَ الأَبَدِ فَلَا يَقَعُ فِيها وَلَا يُرِيدُهَا، وَرَأَيْتُهُ قَدْ أَهْلَكَ دِينَهُ وَنَفْسَهُ بِالْيَسِيرِ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا، وَهَذَا مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ وَحبَائلِهِ، فَاحْذَرْ مَكِيدَتَهُ وَغُرُورَهُ، يَا بُنَىَّ: أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلَا تَنْطِقْ فِيمَا تَخَافُ الضَّرَرَ فِيهِ، فإِنَّ الصَّمْتَ خَيْرٌ مِنَ الْكَلَامِ فِى غَيْرِ مَنْفَعَةٍ، وَتَلافِيك مَا فَرطَ مِنْ هِمَّتِكَ أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِك، وَاحْفَظْ مَا فِى الْوِعَاءِ بِشَدِّ الْوِكَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ حِفْظَ مَا فِى يَدِكَ خَيْرٌ مِنْ طَلَبِ مَا فِى يَد غَيْرِكَ، وَحُسْنَ التَّدْبِيرِ مَعَ الْكَفَافِ أَكْفَى لَكَ مِنَ الْكَثِيرِ فِى الإِسْرَافِ، وَحُسْنَ الْيَأسِ خَيْرٌ مِنَ الطَّلَبِ إِلَى النَّاسِ، يَا بُنَىَّ: لَا تُحَدِّثْ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ فَتَكُونَ كَذَّابًا، وَالْكَذِبُ دَاءٌ فَجَانِبْهُ وَأَهْلَهُ، يَا بُنَىَّ: الْعِفَّةُ مَعَ الشِّدَّةِ خَيْرٌ مِنْ الْغِنَى مَعَ الْفُجُورِ، مَنْ فَكَّرَ أَبْصَرَ، وَمَنْ كَثُرَ خَطَاؤُهُ هُجِرَ، رُبَّ مُضَيِّعٍ مَا يَسُرُّهُ وَسَاعٍ فِيمَا يَضُرُّهُ، مِنْ خَيْرِ حَظِّ الْمَرْءِ قَرِينٌ صَالِحٌ، فَقَارِنْ أَهْلَ الْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ، وَبَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ مِنْهُمْ، وَلَا يَغْلِبَنَّ عَلَيْكَ سُوءُ الظَّنِّ، فَإنَّهُ لَنْ يَدعَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ خَلِيلٍ صُلْحًا، قَدْ يُقَالُ: مِنَ الْحَزْمِ سُوءُ الظَّنِّ وَبِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ، وَظُلْمُ الضَّعيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ، الْفَاحِشَةُ تَقْصِمُ الْقَلْبَ، إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خَرْقًا كَانَ الْخَرْقُ رِفْقًا، وَرُبَّما كَانَ الدَّاءُ دَواءً، والدَّوَاءُ دَاءً، وَرُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ، وَغَشَّ الْمُنْتَصِحُ، إِيَّاكَ وَالاتِّكَالَ عَلَى الْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوكَى ذَكِّ قَلْبَكَ بِالأَدَبِ كَمَا تُذَكِّى النَّارُ الْحَطَبَ، وَلَا تَكُنْ كحَاطِبِ اللَّيْلِ وَغُثَاءِ السَّيْلِ، كُفْرُ النِّعْمَةِ لُؤْمٌ، وَصُحْبَةُ الْجَاهِلِ شُؤْمٌ، وَالْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارُبِ، وَخَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ، وَمِنَ الْكَرَمِ لِينُ الشِّيَمِ، بَادِرِ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً، وَمِنَ الْحَزْم الْعَزْمُ، وَمِنْ سَبَبِ الْحِرْمَانِ التَّوَانِى، وَمِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةُ الزَّادِ وَمَفْسَدَةُ الْمَعَادِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ عَاقِبَةٌ، وَرُبَّ مُشِيرٍ بِمَا يَضُرُّ، لَا خَيْرَ فِى مُعِينٍ مَهِينٍ، وَلَا فِى صَدِيقٍ ظَنِينٍ، لَا تَدَعِ الطَّلَبَ فِيمَا يَحِلُّ وَيَطيبُ، فَلَا بُدَّ مِنْ بُلغَةٍ، وَسَيَأتِيكَ مَا قُدِّرَ لَكَ، التَّاجِرُ مُخَاطِرٌ، مَنْ حَلِمَ سَادَ، مَنْ تَفَهَّمَ ازْدَادَ، وَلِقَاءُ أَهْلِ الْخَيْرِ عِمَارَةُ الْقُلُوبِ، سَاهِلْ مَا ذَلَّ لَكَ بِقُوَّةٍ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اللَّجَاجِ، وَإِنْ قَارَفْتَ سيِّئَةً فَعَجِّلْ مَحْوَهَا بِالتَّوْبَةِ، وَلَا تَخُنْ مَن ائْتَمَنَكَ وَإنْ خَانَكَ، وَلَا تُذِعْ سِرَّهُ وَإِنْ أذَاعَ سِرَّكَ، خُذْ بِالْفضْلِ وَأَحْسِنِ الْبَذْلَ، وَأَحْبِبْ للِنَّاسِ الْخَيْرَ، فإِنَّ هَذِهِ مِنَ الأَخْلَاقِ الرَّفِيعَةِ، وَإِنَّكَ قَلَّ مَا تَسْلَمُ مِمَّنْ تَسَرَّعْتَ إِلَيْهِ، وَكَثيرًا مَا تَحْمَدُ مَنْ تَفَضَّلْتَ عَلَيْهِ، اعْلَمْ أَىْ بُنَىَّ أَنَّ مِنَ الْكَرَمِ الْوَفَاءَ بِالذِّمَمِ وَالدَّفْعَ عَن الْحُرمِ. وَالصُّدُودُ آيَةُ الْمَقْتِ، وَكَثْرَةُ الْعِلَلِ آيَةُ الْبُخْلِ، وَبَعْضُ الإِمْسَاكِ عَنْ أَخِيكَ مَعَ لُطْفٍ خَيْرٌ مِنَ الْبَذْلِ، وَعِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ، وَعِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّينِ، وَعِنْدَ تَجَرُّمِهِ عَلَى الاعْتِذَارِ، حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ، وَكَأَنَّهُ ذُو نِعْمَةٍ عَليْكَ، وَلَا تَضَعْ ذَلِكَ فِى غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَا تَفْعَلْهُ بِغَيْرِ أَهلِهِ، وَلَا تَتَّخِذْ مِنْ عَدُوِّ صَدِيقكَ صَدِيقًا فَتُعَادِىَ صَدِيقَكَ، وَلَا تَعْمَلْ بِالْخَدِيعَةِ فإنَّهَا أَخْلَاقُ اللِّئَامِ، وامْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ، حَسَنَةً كَانَتْ أَمْ قَبِيحَةً، وَسَاعِدْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَزُلْ مَعَهُ حَيْثُ زَالَ، وَلَا تَطْلُبَنَّ مِنْهُ الْمُجَازَاةَ، فَإِنَّهَا مِنْ شِيَمِ الدَّنَاءَةِ، وَخُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ، فَإِنَّهُ أَحْرَى لِلظَّفَرِ، لَا تَصْرِمْ أَخَاكَ عَلَى ارْتِيَابٍ، وَلَا تَقْطعْهُ دُونَ اسْتِعْتَابٍ، وَلِنْ لِمَنْ غَالَظَكَ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ، مَا أَقْبَحَ الْقَطِيعَةَ بَعْدَ الصِّلَةِ، وَالْجَفَاءَ بَعْدَ اللُّطْفِ، وَالْعَدَاوَةَ بَعْدَ الْمَوَدَّةِ، وَالْخِيَانَةَ لِمَنْ ائْتَمَنَكَ، وَخُلْفَ الظَّنِ لِمَنْ ارْتَجَاكَ، وَالْغَرَرَ بِمَنْ وثِقَ بِكَ، وَإِنْ أَرَدْتَ قَطِيعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً، وَمَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْرًا فَصَدِّقْ ظَنَّهُ، وَلَا تُضيِّعَنَّ بِرَّ أَخِيكَ اتَّكَالًا عَلى مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّهُ، لَا تَكُونَنَّ لأَهْلِكَ أَشْقَى النَّاسِ بِكَ ، وَلَا تَرغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ فِيكَ، وَلَا تَزْهَدَنَّ فِيمَنْ رغِبَ إِلَيْكَ إِذَا كَانَ لِلْخَلْطِ مَوْضعًا، لَا يَكُونَنَّ أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته لا تكونن عَلَى الإِسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى الْفَضْلِ، لَا يَكْثُرَنَّ عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظلَمَكَ فَإِنَّهُ يَسْعَى فِى مَضَرَّتِهِ وَنَفْعِكَ، وَلَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَهُ، اعْلَمْ أَىْ بُنَىَّ: أَنَّ الرِّزْقَ رِزْقَانِ: رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَرِزْقٌ يَطْلُبُكَ، فإِنْ لَمْ تَأَتِهِ أَتَاكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّهْرَ ذُو صُرُوفٍ فلا تَكُونَنَّ مِمَّنْ يَسُبُّكَ لاعنةً للدَّهْرِ، وَمَحْفَلًا عِنْدَ النَّاسِ عُذرُهُ، مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَى، إِنَّمَا لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ، فَأَنْفِقْ يُسْرَكَ، وَلَا تَكُنْ خَازنًا لِغَيْرِكَ، فإِنْ كُنْتَ جَازِعًا ممَّا تَفَلَّتَ مِنْ يَديْكَ فَاجْزَعْ عَلَى مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ، اسْتَدِلَّ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ، فَإِنَّ الأُمُورَ أَشْبَاهٌ يُشْبِهُ بِعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا تَكْفُرَنَّ ذَا نِعْمَةٍ، فَإنَّ كُفْرَ النِّعْمَةِ مِنْ قِلَّةِ الشُّكْرِ وَلُؤْمِ الْخُلُقِ، وَأَقْلِلِ الْعُذْرَ، وَلَا تَكُونَنَّ مِمَّنْ لَا تَنْفَعُهُ الْعِظَةُ إِلَّا إِذَا بالَغْتَ فِى الْمَلَامَةِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالْقَلِيلِ، وَالْبَهَائِمُ لَا تَنْتَفِعُ إِلَّا بِالضَّرْبِ، وَاتَّعِظْ بِغَيْرِكَ، وَلَا يَكُونَنَّ غَيْرُكَ مُتَعِّظًا بِكَ، وَاحْتَذِ بِحِذَاءِ الصَّالِحِينَ، وَاقْتَدِ بِآدَابِهِمْ، وَسِرْ بسِيرَتِهِمْ، وَاعْرفِ الْحَقَّ لِمَنْ عَرَفَهُ لَكَ رَفِيعًا كَانَ أَوْ وَضِيعًا، وَاطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ الْهُمُوَمِ بعَزَائِمِ الصَّبْرِ، مَنْ تَرَكَ الْقَصْدَ جَارَ، نعْمَ حَظُّ الْمَرْءِ الْقَنَاعَةُ، شرُّ مَا أَشعَرَ قَلْبَ الْمَرْءِ الْحَسَدُ، وَفِى الْقُنُوطِ التَّفْرِيطُ، وَفِى الْخَوفِ مِنَ الْعَوَاقِبِ السَّعْىُ، الْحَسَدُ لَا يَجْلِبُ إِلَّا مَضَرَّةً وَغَيْظًا يُوهِنُ فِى قَلْبِكَ وَيُمْرِضُ جِسْمَكَ فَاصْرِفْ عَنْكَ الْحَسَدَ تَغْنَمْ، وأَنْقِ صَدْرَكَ مِنْ الْغِلِّ تَسْلَمْ، وَارْجُ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ الأَرْضِ وَالأَقْوَاتِ والسَّمَاوَاتِ، وَسَلْهُ طَيِّبَ الْمَكَاسِبِ تَجِدْهُ مِنْكَ قَرِيبًا وَلَكَ مُجِيبًا، الشُحُّ يَجْلِبُ الْمَلَامَةَ، وَالصَّاحِبُ الصَّالِحُ مُنَاسِبٌ، وَالصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ، وَالْهَوَى شَرِيكُ الْعَمَىَ، وَمِنَ التَّوْفِيقِ سَعَةُ الرِّزْقِ، نِعْمَ طَارِدُ الْهُمُومِ الْيَقِينُ، وَفِى الصِّدْقِ النَّجَاةُ، عَاقِبَةُ الْكَذِبِ شَرُّ عَاقِبَةٍ، رُبَّ بَعِيدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ، وَقَرِيبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِيدٍ، وَالْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ، مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ، مَن اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبقَى له ونعم الخلق وأوثق العرى التقوى من أعتبك قد هَوَى، وَقَدْ يَكُونُ الْيَأسُ إِدْرَاكًا إِذَا كَانَ الطَّمَعُ هَلَاكًا، كَمْ مِنْ مُرِيب قَدْ شَقِىَ بِهِ غَيْرُهُ وَنَجَا هُوَ مِنَ الْبَلَاءِ، جَانِيكَ مَنْ يَجْنِى عَلَيْكَ، وَقَدْ تُعْدِى الصِّحَاحَ مَبَارِكُ الْجُرْبِ، وَلَيْسَ كُلُّ عَوْرَةٍ تَظْهَرُ، رُبَّمَا أَخْطَأَ الْبَصِيرُ قَصْدَهُ، وَأَصَابَ الأَعْمَى رُشْدَهُ، لَيْسَ كُلُّ مَنْ طَلَبَ وَجَدَ، وَلَا كُلُّ مَنْ تَوَقَّى نَجَا، أَخِّر الشَّيْءَ فَإِنَّكَ إِذَا شِئْتَ عَجَّلْتَهُ، أَحْسِنْ إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، احْتَمِلْ أَخَاكَ عَلَى كُلِّ مَا فِيهِ وَلَا تُكْثِر الْعِتَابَ فَإِنَّهُ يُورِثُ الضَّغِينَةَ، وَيَجُرُّ إِلَى الْمَغْضَبَةِ، وَكَثْرَتُهُ مِنْ سُوءِ الأَدَبِ، اسْتَعْتِبْ مَنْ رَجَوْتَ صَلَاحَهُ، قَطِيعَةُ الْجَاهِلِ صِلَةُ الْعَاقِلِ، مَنْ كَابَدَ الْحُرِّيَّةَ عَطِبَ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ زَمَانَهُ حرب، مَا أَقْرَبَ النِّقْمَةَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْىِ وَأَخْلَق مَنْ عَذَرَ أَنْ لَا يُوَفَّى لَهُ، زَلَّةُ الْعَالِمِ أَقْبَحُ زَلَّةٍ، وَعِلَّةُ الْكَذَّابِ أَقْبَحُ عِلَّةٍ، الْفَسَاد يُبِيدُ الْكَثِيرَ، وَالاقْتِصَادُ يُثْمِرُ الْقَلِيلَ، وَالْقِلَّةُ ذِلَّةٌ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ أَكْرَمُ الطَّبَائِعِ، وَالْخَوْفُ شَرُّ لِحَافٍ، وَالزَّلَلُ مَعَ الْعَجلَةِ، لَا خَيْرَ فِى لَذَّةٍ تعقب ندامة والعاقل من وعظته