"عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ في يَوْمٍ يُعْرَضُ فِيهِ الدِّيوَانُ، إِذْ مَرَّ رَجُلٌ أَعْمَى أَعْرَجُ، قَدْ عَنَّى قائدَه، فَقَالَ عُمَرُ حِينَ رَآهُ: مَنْ يَعْرِفُ هَذَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: هَذَا مِنْ بَنِى ضَبْعَا، فَأُتِى بِهِ عُمَر فَقَالَ: مَا شَأنُكَ وَشَأنُ بَنِى ضَبْعَا؟ فَقَالَ: إِنَّ بَنِى ضَبْعَا كَانُوا اثنى عَشَرَ رَجُلًا، وَإِنَّهُمْ جَاوَرُونِى في الْجَاهِلِيَّة فَجَعَلُوا يَأكُلُونَ مَالِى وَيَشْتمُونَ عِرْضِى، وَإنِّى اسْتَنْهَيْتُهم فَنَاشَدْتُهُم اللَّه وَالرَّحِمَ، فَأَبَوْا عَلَىَّ، فَأَمْهَلْتُهُمُ حَتَّى إِذَا كَانَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ دَعَوْتُ اللَّه عَلَيْهِمْ وَقُلْتُ:
اللَّهُمَّ إِنِّى أَدْعُوكَ دُعَاءً جَاهدًا ... اقتُلْ بَنِى ضَبْعَاءَ إلَّا وَاحِدَا
ثُم اضْرِب الرَّجل فَذَرْهُ قَاعِدًا ... أَعْمَى إِذا ما قِيدَ عَنَّى القائدا
فَلَمْ يَحُل الْحَوْلُ حَتَّى هَلَكُوا غَيْرَ وَاحِدٍ، وَهُوَ هَذَا كَمَا تَرَى "قدْ عَنَّى قائدا" فَقَالَ عُمَرُ: سُبْحَانَ اللَّه؛ إِنَّ في هَذَا لَعِبْرَةً وَعَجَبًا فَقَالَ رجُلٌ آخَرُ مِنَ الْقَوْمِ: يَا أَمِيرَ الْمؤْمِنِينَ! أَلَا أُحَدِّثُكَ مِثْلَ هَذَا وَأَعْجَبَ مِنْهُ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ نَفَرًا مِنْ خُزَاعَةَ جَاوَرُوا رَجُلًا مِنْهُم، فَقَطَعُوا رَحِمَهُ وَأَسَاءُوا مُجَاوَرَتَهُ، وَإِنَّهُ نَاشَدَهُم اللَّه وَالرَّحِمَ إِلَّا أَعْفَوْهُ مِمَّا يَكْرَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَأَمْهَلَهُم حَتَّى إِذَا جَاءَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ ودَعَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ:
اللَّهُمَّ رَبَّ كُلِّ آمِنٍ وَخَائِفٍ ... وَسَامِعًا تهتاف كُلَّ هَاتِفِ
إِنَّ الْخُزاعِىَّ أَبَا تقَاصُفِ ... لَمْ يُعْطنى الْحَق وَلَمْ يُنَاصِفِ
فَاجْمَعْ لَهُ الأحِبَّةَ الأَلَاطِف ... بَيْنَ مران ثم والنَّواصِف
اجْمَعْهُمُ جوف كريهٍ راجفٍ
قَالَ: فَبَيْنَما هُمْ عِنْدَ قَلِيبٍ يَنْزفُونَهُ فَمِنْهم مَنْ هُوَ فِيه وَمِنْهُم مَنْ هو فَوْقَهُ؛ تهور الْقَلِيبُ بِمَن هُوَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ كَانَ فيهِ فَصَارَ قُبُورَهُم حَتَّى السَّاعَة، فَقَالَ عُمَرُ: سُبْحَانَ اللَّه إِنَّ في هَذَا لَعِبْرَةً وَعَجَبًا، فَقَالَ رَجُلٌ مَنَ الْقَوْمِ آخَرُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِثْلِ هَذَا وَأَعْجَب منْهُ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنْ هُذَيْل وَرِث فَخِذَه الَّذِى هُوَ مِنْهَا، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنهُم أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَجَمَعَ مَالًا كثِيرًا، فَعَمدَ إِلَى رُهَيْطٍ مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهُمْ "بَنُو المؤَمِّل" فَجَاوَرَهُم لِيَمْنَعُوهُ وَليَرُدُّوا عَلَيْه مَاشِيَتَهُ وَإنَّهمْ حَسَدُوهُ عَلَى مَالِهِ، فَجَعَلُوا يَأكُلُونَ مَالَهُ وَيشْتُمُونَ عِرْضَهُ، وَإِنَّهُ نَاشَدَهُم اللَّهَ وَالرَّحِمَ إلَّا عَدَلُوا عَنْهُ مَا يَكْرَهُ، فأَبَوْا عَلَيْهِ، فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْهُم يُقَالُ لَهُ (رَبَاحٌ) يُكَلِّمُهُم فِيهِ وَيَقُولُ: يَا بَنِى الْمُؤَمِّل! ابْنُ عَمِّكُم اخَتَارَ مُجَاوَرَتكُم عَلَى مَنْ سِوَاكُم، فَأَحْسِنوا مُجَاوَرَتَهُ، فَأَبَوْا عَلَيهِ، فَأَمْهَلَهُم حَتَّى إِذَا كَانَ الشَّهْرُ الْحَرامُ دَعَا عَلَيْهِم فَقَالَ:
اللَّهُمَّ أَزِلْ عَيْنَى بَنِى الْمُؤَمِّلِ ... وَارْمِ عَلَى أَقْفَائهِم بِمُنْكُلِ
بِصَخْرَةٍ أو عَرْض جَيشٍ جَحْفَلِ ... إِلَّا ربَاحًا إِنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ
فَبَيْنَا هُمْ ذَاتَ يَومٍ نَزَلَ إِلَى أَصْلِ جَبَلٍ انْحَطَّتْ عَلَيهمْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ لَا تَمُرُّ بِشَىْءٍ إِلَّا طَحَنَتْهُ، حَتَّى مَرَّتْ بِأَبْيَاتِهِمْ فَطَحَنَتْهَا طَحْنَةً وَاحدَةً إِلَّا رَبَاحًا الَّذِى اسْتَثْنَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: سُبْحَانَ اللَّه! إِنَّ فِى هَذَا لَعِبْرَةً وَعَجَبًا، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَلَا أُخْبِرُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَهُ وَأَعْجَب مِنْهُ؟ قَالَ: بَلَى؛ قال: فَإِنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ جَاوَرَ قَوْمًا مِنْ بَنِى ضَمَرةَ، فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنْهُم يُقَالُ لَهُ: رِيشَةٌ يَغْدُو عَلَيْهِ، فَلَا يَزَالُ يَنْحَرُ بَعيرًا مِنْ إِبِلِهِ، وإن كلمه قومُه فيه، فلَمَّا لَمْ يَنْتَهِ حَتَّى إِذَا كَانَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ دَعَا عَلَيْهِ فَقَالَ:
أصادق ريشة يَا آل ضمر ... أليس للَّه عليه قُدره
أَمَا يَزَالُ شارفٌ وبَكْرَه ... يطعن منها في شواء الشفرة
بصارم له رونق أَوْ شفره ... اللهم إذ كان تعدى فجره
فَاجْعَلْ أَمَامَ الْعَيْنِ مِنْه جدره ... يَأكُلهُ حَتَّى يُوَافى الْحُفْرَه
فَسَلَّطَ اللَّه عَلَيْهِ أَكَلَة حَتَّىِ مَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَقَالَ عُمَرُ: سُبْحَانَ اللَّه، فَإِنَّ في هَذَا لَعِبْرَةً وَعَجَبًا، وإِنْ كَانَ اللَّهُ ﷻ لَيَصْنَعُ هَذَا بِالنَّاسِ في جَاهِليَّتهم لينزِع بعضَهم مِنْ بَعْضٍ، فَلَمَّا أَتَى اللَّهُ بالإِسْلَامِ أَخَّر الْعُقُوبَةَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه يَقُولُ في كِتَابِه: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} (*) {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (* *)، قَالَ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (* * *) ".
. . . .
. . . .